عشرة أشياء ضائعة ـ لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها :
1 ـ علم لا يُعمل به :
أيها الأخوة الكرام ، مع فائدة قيّمة من كتاب ابن القيم الفوائد ، هذه الفائدة عنوانها عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها ، أي تاجر حينما يستورد صفقة ، ويجهد جهداً كبيراً في بيعها ، وفي المحصلة لم يربح بها شيئاً ، يتألم أشد الألم ، لأنه جهد ضائع ، ومال لم ينتفع به، والخسارة مؤلمة جداً ، وقبل : الخسارة أن يضيع وقتك سدى ، أن يضيع جهدك سدى ، لذلك ابن القيم رحمه الله تعالى يقول : عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها : أولها علم لا يعمل به.
العلم ما انتفعت به و إذا لم تنتفع به لا قيمة له ، مرة وقع تحت يدي كتاب صُدّر بأربعة أدعية مؤثرة جداً ، الدعاء الأول يقول : " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ".
أي أنت تتعلم ، تتعب ، تبذل جهداً ، تشرح ، توضح ، تحلل ، لكنك لم تطبق هذا العلم ، يأتي إنسان لا تعب ولا اجتهد ، سمع الحديث فقنع به ، طبقه ، قطف كل ثماره ، مصيبة كبيرة جداً ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، لذلك العلم الذي لا يعمل به جهد ضائع .
2 ـ عمل لا إخلاص فيه و لا اقتداء :
شيء آخر : وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ، إنسان صلى في الصف الأول في صلاة الفجر أربعين عاماً ، في أحد الأيام غلبته نفسه فتغيب عن الصلاة فقال : ماذا يقول الناس عني هذا اليوم ؟ معنى هذا أنك في الأربعين عاماً فعلت هذا من أجل أن تنتزع إعجاب الناس ، العمل بلا إخلاص لا قيمة له ، عمل ضائع :
(( إِنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]
لو الإنسان تتبع أعماله قد يكتشف ـ والحقيقة مرة ـ أنه ليس مخلصاً الإخلاص الكافي ، لذلك قالوا : هناك إخلاص يحتاج إلى إخلاص ، تبذل جهداً دون أن تشعر من أجل أن تنتزع إعجاب الناس ، من أجل أن تصرف وجوههم إليك ، من تعلم العلم ليجادل به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه فليتجهز إلى النار .
ارتباط قيمة العمل بنيته :
النية خطيرة جداً :
(( إِنما الأعمال بالنيات )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]
قيمة العمل بنيته ، مثلاً لو قدمت لإنسان شراباً لذيذاً ، وتعلم أن هذا الشراب يؤذي معدته ، وأنت بنية إيذاء معدته تحاسب حساباً شديداً ، مع أن الظاهر قدمت له شراباً لذيذاً ، ولو أعطيته دواءً وفي نيتك أن يشفى به فازداد مرضه ترقى عند الله رقياً :
(( إِنما الأعمال بالنيات )) .
[ أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ]
فلذلك قيمة العمل بالرؤيا التي قبله ، بالتصور الذي قبله ، بباعث الحركة الذي سبقه ، لذلك الإخلاص الإخلاص لأنه من دون إخلاص لا ينفعك كثير العمل ولا قليله ، ومع الإخلاص ينفعك قليل العمل .
علم لا يعمل به جهد ضائع ، حجة عليك ، ندم يوم القيامة ، أي إنسان على وشك أن يموت عطشاً ، فإذا عرف مكان الماء ، ولم يذهب إليه ، ومات من العطش ، قبل أن يموت يزداد ألماً لأنه علم ولم يعمل ، لذلك قال تعالى :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ﴾
( سورة الفاتحة )
المغضوب عليهم عرفوا وانحرفوا ، الضالون ما عرفوا وانحرفوا ، الذي عرف وانحرف ندمه أشد ، لذلك قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (145) ﴾
(سورة النساء)
علمٌ لا يُعملُ به ، وعملٌ لا إخلاص فيه ولا اقتداء .
3 ـ مال لا ينفق منه :
الآن ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، إنسان ترك ملايين مملينة وتوفي ، رأى صديق المتوفى ابن المتوفى في الطريق سأله سؤال المستفهم إلى أين أنت ذاهب ؟ فقال له : أنا ذاهب لأشرب الخمر على روح والدي .
أنت حينما لا تعلم أولادك هذا المال الذي تركته لهم إثم كبير لأن طريقة إنفاق المال قد تلحق بالمتوفى .
ومالٌ لا يُنفقُ منه ، لذلك العلماء فرقوا بين الكسب والرزق ، الرزق ما انتفعت به ، الطعام الذي تأكله ، الثياب التي تلبسها ، البيت الذي تأوي إليه ، الفراش الذي تنام عليه ، هذا الرزق ، أما الكسب الرقم في المصرف ، حبر على ورق ، ثمانية وثلاثون مليوناً ، أكل وجبة متواضعة ، ونام على سرير واحد ، وارتدى ثياباً واحدة ، فالكسب محاسب عليه ولو لم تنتفع منه ، أما الرزق كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت ".
علم جهد ضائع لا يُعمل به ، عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ، مال لا ينفق منه ، فلا يستمتعُ به جامعُهُ في الدُّنيا ، ولا يقدِّمُهُ أمامه إلى الآخرة .
والبخل والشح أمراض وبيلة يعيش فقيراً ليموت غنياً .
4 ـ قلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله :
شيء رابع ، وقلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، ساهٍ ولاهٍ ، لذلك قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) ﴾
(سورة الشعراء)
القلب السليم ، هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله ، ولا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله ، ولا يُحكّم غير شرع الله ، ولا يعبد إلا الله ، قلب فارغ ليس فيه محبة لله ، يتحدث معك ساعات طويلة في أمور الدنيا ، لو أن الإمام أطال بالآية هناك من ينتقد الإمام ، لكن وهو واقف في الطريق يبقى ساعتين ، والحديث عن مشاريع التجارة ، وأسعار العملات ، والاستثمارات ، قلب فارغ من محبة الله مشغول بالدنيا ، وحبك الشيء يعمي ويصم .
5 ـ بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه :
بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه ، لا يتحرك إلا بعمولة ، لا يتكلم كلمة إلا بأجر ، لو دلك على شيء يريد أجراً ، لا يتحرك ولا يتكلم ولا يدلك إلا بمال ، بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه .
6 ـ محبّةٌ لا تتقيدُ برضاءِ المحبوبِ :
الآن إذا أحب يحب محبوباً لا يحبه الله ، إذا أبغض يبغض جهةً يحبها الله ، محبته وكراهيته لا علاقة لها بإيمانه يحب من ينتفع منه ، يحب من يعظمه ، يكره من ينصحه ، فحبه وبغضه ليسا متقيدين بالشرع .
إذاً علمٌ لا يُعملُ به ، عملٌ لا إخلاص فيه ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، قلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، بدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه .
لو أحب محبته لا تتقيد برضاءِ المحبوبِ وامتثالِ أوامرهِ .
7 ـ وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط أو اغتنامِ عمل صالح :
والآن الوقت : يسهر لساعات طويلة في لعب النرد ، في متابعة المسلسلات ، وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط ، أنت وقت ، أنت بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، فالوقت المعطل عن استدراك ما فرطت سابقاً ، إنسان اصطلح مع الله ، هذا الوقت الثمين يمكن أن يعوض ما فاته من عمل صالح ، من طلب للعلم ، أنت بضعة أيام ، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، تزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ، وقتٌ معطلٌ عن استدراكِ ما فرط أو اغتنامِ برِّ أو عمل صالح لا يتحرك إلا لمصلحته .
8 ـ فكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ :
الآن وفكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، أحياناً الإنسان ينغمس في متابعة الأخبار المحلية، والعربية ، والإسلامية ، والدولية ، يتابع التعليقات والتصريحات ، مهما تتبعت الأخبار ، مهما تعمقت في فهمها ، مهما حللتها ، ماذا فعلت في النهاية ؟ ما فعلت شيئاً ، اعمل عملاً تتقرب به إلى الله عز وجل ، أي فكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، يقول لك قرأت الأوديسا ؟ ما قرأتها ؟ لا ولله ، سبعة آلاف بيت كلها آلهة وشرك لكن صياغتها رائعة ، قرأت ديوان فلان ؟ لا والله ، مشغول بموضوعات لا تقدم ولا تؤخر ، ولا ترتقي بالإنسان ، ولا ينتفع بها لكنها ممتعة ، لو رأيت الناس كيف يمضون أوقاتهم إما في معاصي اللسان ؛ الغيبة والنميمة ، أو في مثيرات تحفزهم إلى المعاصي والآثام ، أو في مواضيع لا قيمة لمن أدركها ، مرة دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المسجد رأى نسابة ، سأل سؤال العارف من هذا ؟ قالوا : هذا نسابة ، فقال النبي وما نسابة ؟ قال : علم بأنساب العرب ، قال : ذلك علم لا ينفع من تعلمه ولا يضر من جهل به .
الوقت ثمين .
9 ـ خدمةُ إنسان لا تقرِّبُك خدمتهُ إلى الله :
شيء آخر ضائع : خدمة من لا تقرِّبُك خدمتهُ إلى الله ، أحياناً يخدم إنساناً منحرفاً ، فاسقاً ، يحب أن يظهر أمامه أنه بطل ، همه انتزاع إعجابه ، همه أن يبتسم أمامه ، هذا الشخص مقطوع عن الله ، تخدمه متوهماً أن بيده شيئاً ، ولا أحد ينفعك إلا الله ، هو المعطي، هو المانع ، هو الرافع ، هو الخافض ، هو المعز ، هو المذل .
10 ـ خوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيد الله :
شيء آخر : خوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيد الله ، تخاف من إنسان بيد الله ، في قبضة الله ، قال تعالى :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) ﴾ .
( سورة هود )
هذا الذي تخافه ، هذا الذي ترجوه ، هذا الذي تعلق عليه الآمال ، هذا الذي تتوهم أن رضاه عنك يرفعك إلى أعلى عليين ، وأن سخطه عليك يهوي بك إلى أسفل سافلين ، أنت واهم هو بيد الله ، في قبضة الله ، حاول أن ترضي خالقك ، حاول أن ترضي من إليه المصير ، حاول أن ترضي من وعدك بجنة عرضها السماوات والأرض .
وخوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيدِ الله ، وهو أسيرٌ في قبضة الله ، ولا يملكُ لنفسهِ ضراً ، ولا نفعاً ، ولا موتاً ، ولا حياةً ، ولا نُشوراً .
هذا هو الشرك الأصغر ، هذا هو الشرك الخفي أخفى من دبيب النملة السمراء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء .
أعظم الإضاعات إضاعتان إضاعةُ القلبِ وإضاعةُ الوقت :
قال : وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان ، عشرة أشياء ، علمٌ لا يُعملُ به ، وعملٌ لا إخلاص فيه ، ومالٌ لا يُنفقُ منه ، وقلبٌ فارغٌ من محبّةِ الله ، وبدنٌ معطّلٌ من طاعتهِ وخدمة خلقه ، ومحبّةٌ لا تتقيدُ برضاءِ المحبوبِ ، ووقتٌ معطلٌ عن استدراكِ فارطٍ أو اغتنامِ عمل صالح ، وفكرٌ يجولُ فيما لا ينفعُ ، وخدمةُ إنسان لا تنفعك خدمه ، وخوفُكَ ورجاؤك لمن ناصيتُهُ بيدِ الله ، هذه عشرة أشياء وهو أسيرٌ ، لكن أعظم هذه الإضاعات إضاعتان إضاعةُ القلبِ وإضاعةُ الوقت ، إضاعة القلب حينما تملؤه بحب الدنيا ، حينما تؤثر الدنيا على الآخرة، حينما تؤثر حياة قصيرة على حياة أبدية ، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة ، أما إضاعة الوقت يأتي من طول الأمل .
والله حدثني إنسان عن خططه لعشرين سنة قادمة ، وفي المساء قرأت نعوته في اليوم نفسه ، طول الأمل .
الفسادُ يجتمع في اتباع الهوى وطولِ الأمل و الصلاحُ يجتمع في اتباعِ الهدى و لقاء الله :
أيها الأخوة ، الفسادُ كلهُ يجتمع في اتباع الهوى وطولِ الأمل ، والصلاحُ كلهُ يجتمع في اتباعِ الهدى والاستعداد للقاء الله عز وجل .
لذلك بعد الخمسين هناك ضعف بصر ، و نظارات ، أحياناً هناك أدوية معينة ، هناك التهاب مفاصل ، و أشياء متعبة ، أنا أرى هذه رسائل من الله أن يا عبدي قد اقترب اللقاء هل أنت مستعد له ؟
إلى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
تعصي الإله وأنت تظهر حبـه ذاك لعمــري في المقام شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعــته إن المــحب لمن يـحب يطيع
***
العجب ممن تعرض له حاجة ، أي يتمنى أن يرسل في بعثة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له ، ولا يسأله الآخرة ، يسأله الدنيا فقط ، يسأله زواجاً ، امرأة ، يسأله مكانة ، شهادة ، عملاً ، فرصة ، مالاً ، ونسي الآخرة ، هذا الذي يقتصر في سؤال الله عن دنياه وينسى الآخرة فقد ضيّع أيضاً وقتاً ثميناً .
أيها الأخوة الكرام ، أخطر شيء في حياة الإنسان الشهوات والشبهات ، الشهوات نفسية ، الشبهات فكرية ، فهذه الأشياء العشرة أرجو الله عز وجل بدل أن نضيعها أن ننتفع بها .
والحمد لله رب العالمين